مـطبعة بـولاق

تعتبر مطبعة بولاق أو المطبعة الأميرية أول مطبعة رسمية حكومية تنشأ على الإطلاق في مصر M-Ali.pngتقيم أسس صناعة الطباعة وتعمل على إحداث نقلة ليست نوعية فحسب ، بل نقلة كمية ومعرفية للعلم فى المنطقة العربية بأسرها، وقد أنشأها محمد علي في عام 1820 م. لم تنشأ مطبعة بولاق بمفردها مستقلة عن بقية مشروعـات محمد علي، بل كانت جزءًا من مشروع تنموي كبير، وكانت كأي مؤسسة أخرى من مؤسساته يُرجى منها أن تساهم بإنجاح جانب من ذلك المشروع التنموي الكبير. استهل محمد علي حكمه بإنشاء جيش نظامي يحكم به سلطته على البلاد، ولما كان لابد لهذا الجيش من كتب يتعلم فيها التقنيات والخطط الحربية، بالإضافة إلى أنواع الأسلحة المختلفة، وقوانين تحدد واجبات أفراده ضباطًا وجنودًا، فظهرت الحاجة الملحة لإنشاء مطبعة لطباعة ما يستلزم من كتب قوانين وتعليمات الجيش..

مراحل إنشاء مطبعة بولاق

دأت فكرة إنشاء مطبعة عند محمد علي باشا في سنة 1815 م عندما أوفد أول بعثة إلى مدينة ميلان فى ايطاليا برئاسة نيقولا مسابكى لتعلم فن الطباعة. تم البدء في إقامة بناء المطبعة في سنة 1235 هـ/ 1820 م ولم يأت شهر ذى الحجة من سنة 1235 هـ وشهر سبتمبر من سنة 1820 م إلا وكان البناء قد تم تشييده. أما تركيب الآلات printing.pngووضعها في أماكنها فقد تم البدء فيه في سبتمبر سنة 1821 م وتم الانتهاء منه في يناير سنة 1822 م.استغرقت فترة التجربة- تجربة الآلات والحروف وتوزيع العمال عليها وتدريبهم على أعمالهم في المدة من يناير سنة 1822 م إلى أغسطس من نفس السنة- وبلغ العمل في المطبعة أشده وبدأت المطبعة في عملية الإنتاج الفعلي فيما بين أغسطس إلى ديسمبر سنة 1822 م. وقد أصدرت المطبعة أول مطبوعاتها في ديسمبر سنة 1822 م. جاءت أولى إصدارات المطبعة في عام 1238 هـ/ 1822 م ممثلة في «قاموس إيطالي-عربي» ملبية لفكر محمد علي في ضرورة الانفتاح على أوروبا لاقتباس أسباب تقدمها؛ ومن ثمَّ ظهرت الحاجة إلى الترجمة، بالإضافة إلى أن محمد علي باشا اتجه أول الأمر إلى إيطاليا في إرسال البعثات وكانت اللغة الإيطالية أول لغة أجنبية تُدرس في مدارسه، وكان اول كتاب طبع فى المطبعة عن صباغة الحرير ثم كتاب كلستان السعدى فى عام 1828 م وفى عام 1836 م تم طبع كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب كليلة ودمنه عام 1826 م .

اسم المطبعة

ذكر أول اسم للمطبعة في اللوحة التذكارية لإنشائها، حين ذكرت باسم «دار الطباعة». ثم نجد في أول مطبوعاتها، وهو القاموس العربي الإيطالي، أن اسمها في الجزء العربي من القاموس «مطبعة صاحب السعادة» إذ كُتب في أسفل أولى صفحات هذا الجزء : 22224.png«تم الطبع في بولاق بمطبعة صاحب السعادة»، واسمها في الجزء الإيطالي هو «المطبعة الأميرية» إذ كُتب في أسفل صفحته الأولى بالخط الكبير كلمة « Bolacco » ثم تحتها بالخط الصغير « Dalla Stamperia Reale » لا يهمنا في هذا المقام سوى أن الاسم الثابت هو «بولاق» ففي الجزء العربي وردت بولاق قبل اسم المطبعة، وفي الجزء الإيطالي نجد كلمة « Bolacco » بالخط الكبير في سطر مستقل فكأن اسم «بولاق» ارتبط بالمطبعة من أول الأمر. ثم نجد أسماء للمطبعة تشبه هذين الاسمين مثل «المطبعة الأميرية» « Imprimerie Royale ». وقد تكون أحيانًا أخرى على شكل تأريخ لانتهاء طبع كتاب في آخره وفي مقدمته وفي هذه الأحوال يختلف اسم المطبعة باختلاف تفنن الكاتب في التعبير إلا أننا نجد ذكرًا في كل الأحوال لبولاق ثم يضاف إليها عدة أوصاف تختلف باختلاف تفنن الكاتب في التعبير مثال ذلك «دار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق مصر المحروسة القاهرة» كما ورد في أحد أعداد الوقائع أو «مطبعة صاحب السعادة ببولاق» أو كما كتب في أول عدد من الوقائع المصرية «مطبعة صاحب الفتوحات السنية ببولاق مصر المحمية» أو «مطبعة صاحب السعادة الأبدية والهمة العلية الصفية التي أنشأها ببولاق مصر المحمية صانها الله من الآفات والبلية» إلى غير ذلك من ضروب التفنن في التعبير التي يقصد بها تسمية المطبعة وتعظيم مؤسسها والدعاء لها وله.وعلى ذلك فإن اسمها الرسمي التاريخي هو «مطبعة بولاق». في عام 1862 م أهداها سعيد باشا إلى عبد الرحمن رشدي فتغير اسمها إلى «مطبعة عبد الرحمن رشدي ببولاق»، ثم عاد اسمها وتغير إلى «المطبعة السنية ببولاق» أو«مطبعة بولاق السنية» وذلك في عهد الخديوي إسماعيل، حيث ظلت المطبعة بعيدة عن قبضة الحكومة المصرية. في عهد الخديوي توفيق تغير اسمها للمرة الثالثة ليصبح «مطبعة بولاق الأميرية»، ثم في عام 1903 م تغير إلى »المطبعة الأميرية ببولاق»، وفي عام 1905 م أصبح اسمها «المطبعة الأميرية بالقاهرة»، وبعد قيام ثورة يوليو 1952 م اهتمت حكومة الثورة بضرورة الاهتمام بالمطبعة الأميرية. ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر أنشئت وزارة الصناعة في عام 1956 م، وصدر قرار رئيس الجمهورية بإنشاء هيئة عامة للمطابع يلحق بوزارة الصناعة يطلق عليها «الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية».

موقع المطبعة

الموقع القديم، شُيدت مطبعة بولاق في أول الأمر في جزء من مساحة الترسانة البحرية في الجزء الممتد على ضفة النيل اليمنى من الشمال إلى الجنوب إلى الشمال قليلاً من موقعها المعدل ببولاق.aMIROG.pngbuilding-th.png الموقع الحديث ، بعد قيام ثورة يوليو 1952 م وجدت حكومة الثورة ضرورة الاهتمام بالمطبعة الأميرية. وتم التفكير في إنشاء مبنى جديد للمطابع وذلك لتلبية جميع طلبات الهيئات والمصالح الحكومية، وكذلك مسايرة التقدم في فن الطباعة باستبدال الماكينات القديمة بماكينات أخرى حديثة ذات سرعات عالية. وفى 13 اغسطس سنة 1956 أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرار بقانون 312 لسنة 1956 بإنشاء هيئة عامة للمطابع يطلق عليها " الهيئة العامة لشئون المطابع الاميرية " تلحق بوزارة الصناعة وفي عام 1958 م تم الاتفاق على إنشاء هذا المبنى الجديد للمطابع الأميرية، وتم تخصيص مساحة قدرها 30.000 متر مربع من أرض مشتل التنظيم بإمبابة لإقامة مباني المطبعة الجديدة عليها

مع تولي محمد علي حكم مصر في عام 1805 م بتفويض من السلطان العثماني وتحت ضغط شعبي،ind00.png بدأت بوادر النهضة السياسية، والحربية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية تظهر إلى النور، وكانت لجملة محمد علي الشهيرة «تعليم العباد لعمار البلاد» الأثر السحري في نشر التعليم بين طبقات الشعب، حيث نجد الصلة والربط بين العباد والبلاد في المجال التعليمي، كما سبق وحدث في غيره من المجالات، وعليه فقد قام محمد علي بإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج في فترة مبكرة من حكمه لتلقي العلوم في شتى جوانب المعرفة؛ فأولى ثمار المطبعة هو نشر العلم والمعرفة كسلاح للتقدم بين الأمم.
بدأت الطباعة بالعناية بالكتب الدراسية في العلوم العسكرية والطبيعية، خاصة في الطب والرياضيات جنبًا إلى جنب مع كتب العلوم الإنسانية، خاصة تلك الأعمال التي عمد رفاعة الطهطاوي إلى ترجمتها، ويلاحظ أن ترجمة هذا النوع من المؤلفات قد نشط خلال الأربعينيات بعد أن تقلص الجيش المصري، وتبرز أهمية هذه الترجمات في أنها فتحت أكثر من باب في اتجاه تكوين المثقف الجديد في مصر ثقافة مدنية معاصرة.
كذلك لعبت المطبعة دورًا هامة في اتساع طبقة المثقفين أو طبقة «الأفندية» التي مثلت ركيزة أساسية في صناعة وتحديث المجتمع المصري من ازدياد إصدارات المطبعة في شتى المجالات . وقد أدى هذا إلى ازدياد عدد المدارس خاصة في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أولى اهتمامًا خاصًا بتعليم الفتاة تأكيدًا على الدور المحتمل للمرأة في تلك الفترة، والمؤكد فيما بعد. أنة في سنة 1873 م أنشأت السيدة جشم آفت هانم ثالث زوجات الخديوي إسماعيل مدرسة السيوفية، وكان بها نحو مائتي طالبة يتعلمن مجانًا، فضلاً عن الإنفاق على مأكلهن وملبسهن ويتعلمن القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم... الخ. فنلاحظ هنا أن التعليم الحكومي في عصرالخديوي إسماعيل وإن استمر يسير على نفس الدرب والمنوال الذي رسمــه له محمد علي باشا من حيث كفالة الطلاب من خلال النظام الداخلي ومن ناحية توفير الوظائف لهم في الإدارة الحكومية إلا أنه اتخذ في هذا العصر طابعًا قوميًا وليس طابعًا عسكريًا كما كان في عهد محمد علي.

من ناحية أخرى أدى اتساع قاعدة طبقة الأفندية إلى ظهور بصماته واضحة وجلية على مجال الطباعة والنشر وكذلك الصحافة، فمع ازدياد عدد المدارس التي أُنشئت في عهد الخديوي إسماعيل، ازداد عدد المثقفين، مما أدى إلى التوسع الهائل في كمية الكتب المطبوعة سواء من قبل الحكومة، أو من قبل الملتزمين. وظهرت العديد من المطابع الخاصة سواء للمصريين أم للأجانب، وبذلك تحولت الطباعة من أداة حكومية تتحكم فيما تنشره للناس، بحيث يكون موافقًا ومسايرًا لسياستها إلى أداة مجتمعية في أيدي الشعب، حيث أصبح الكثير من أفراده على علم بما يجري في الداخل والخارج. ويتضح ذلك من كثرة عدد الكتب التي نشرت في عهد الخديوي إسماعيل، وأعداد الصحف التي طبعت في عصره، سواء أكانت حكومية مثل الوقائع المصرية، أم كانت أهلية وأولها وأهمها: صحيفة وادي النيل التي أصدرها عبد الله أبو السعود في 5 يوليو 1867 م. وكذلك انتشرت مطابع المصريين إلى جانب مطبعة بولاق تؤدي دورها في مسيرة التقدم والتطوير المستمر لثقافة المجتمع المصري، فعلى سبيل المثال أنشئت المطبعة الوهبية نسبة إلى منشئها وصاحبها مصطفى وهبي بن محمد الذي كان رئيس مصححي اللغة التركية بمطبعة بولاق في عام 1863 م، وقامت بطبع كتاب «مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح» ونلاحظ أن هذا الكتاب لا يتحدث عن الفنون الحربية، أو الأمراض الطبية، أو العلوم الهندسية، بل يتناول ما يمس حاجة الفلاح البسيط لتنمية زراعة أرضه.
لقد كانت مطبعة بولاق بداية لتاريخ الطباعة في مصر، فما بدأت المطبعة عملها، حتى تلتها مطابع أخرى كثيرة ...وكأن أهل مصر كانوا يبحثون عن باب المعرفة منذ أزمان بعيدة، وكانت مطبعة بولاق هي طاقة النور التي انتظروها طويلاً، فعرفوا من خلالها أن المطبعة هي طريق الخروج من عهود الظلام الطويلة التي رزحوا فيها أزمانًا إلى عهد جديد من الوعي بشرت به طباعة الكتب والصحف التي أخرجتها المطبعة ( مطبعة بولاق).
لقد كانت المطبعة بحق هي بوابة العبور حيث اجتازت مصر عبرها عصرًا من الظلام والتخلف والضعف في كل جوانب الحياة إلى عصور أخرى تشرق فيها شموس المعرفة والازدهار والقوة في جوانب الحياة المختلفة .. فكان لها
الأثر الجليل في حياة المصريين مزارعين ومثقفين، بسطاء ورجال دولة، فقراء وأغنياء، فالعلم هو الوسيلة التي يرقى بها الإنسان إلى مرتبة التقدم والرقي.